المقدمة
ودعنا قبل أيام قرناً كان حافلاً بالأحداث لم يكن بالضرورة حافلاً بالمسرات للإسلام والمسلمين ولكنه كان حافلاً بالنقلات النوعية التي نقلت الأمة من حال إلى حال، لا يمكن الجزم بأن كل ما قمنا به خلال القرن كان إنجازات كما أنه لا يمكن القول بأنها كانت تندرج تحت باب الإخفاقات، سنحاور اليوم فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ضيفنا المعتاد في هذا البرنامج حول قضايا القرن الماضي حصاده وحصيلته، دكتور يوسف أهلاً بك مجدداً..
المقدم
لو ابتدأنا بسؤال عام جامع، هل شهدت الأمة إنجازات _ لو ابتدأنا بالجانب الإيجابي لحصيلة هذا القرن _ هل تعتقد..
القرضاوي
أولاً هناك ملاحظتان قبل الإجابة عن هذا السؤال المهم، الملاحظة الأولى هي أن القرن العشرين لم ينته والقرن الحادي والعشرين أو ما يسمونه الألفية الثالثة لم تبدأ، الواقع أن هذه السنة هي نهاية القرن العشرين، القرن يبدأ بواحد وينتهي بمائة وليس بتسع وتسعين، ولذلك 1999 ليست هي نهاية القرن ولكن بنهاية سنة 2000 ينتهي القرن العشرين ويبدأ القرن الحادي والعشرين، أو الألف الثالث كما يقولون، وهذه قضية كنا اختلفنا فيها حقيقة في نهاية القرن الرابع عشر الهجري وبداية القرن الخامس عشر، وكنا نحتفل هنا في قطر بهذا القرن بإقامة المؤتمر العالمي للسيرة والسنة النبوية، فكان بعض الأخوة يظن أن سنة 1400 هـ هي بداية القرن الجديد ولكن بعد بحث انتهينا إلى أن القرن يبدأ 1401 وكذلك هنا 2001 يبدأ القرن، هذه هي الملاحظة الأولى ولا ينبغي الخلاف فيها.
الملاحظة الثانية، أن كثيراً من الناس يتساءلون ما علاقتنا نحن بهذا القرن؟ هذا ليس قرننا، قرننا هو الهجري، نحن احتفلنا بالقرن الخامس عشر الهجري ولكن هذا هو القرن الميلادي وهذا قرن المسيحيين وليس قرن المسلمين فربما يقال هذا وقد صدرت بعض الفتاوى بتحريم الاحتفال بهذا القرن، ولكن أنا أقول أولاً نحن لا نحتفل إنما نحن نقف وقفة محاسبة ومراجعة وتقويم، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى، القرن هذا هو ليس قرننا هو قرن ميلاد المسيح، وميلاد المسيح القرآن احتفى به، وسورة مريم هو احتفاء بميلاد المسيح حيث أنه كان ميلاداً خارقاً للعادة، رجل جاء من غير أب واتهمت أمه وأنطقه الله في المهد صبياً..الخ، ولكن نحن على كل حال أمة متميزة لا نحتفل إلا بأعيادنا نحن لا بأعياد غيرنا، ولكن ليس هناك مانع من أن نحتفي بمعنى أن نهتم، والاحتفال حتى في اللغة العربية كلمة احتفل بكذا بمعنى اهتم به وليس أقام حفلاً أو حشداً أو كذا، لا، الاحتفال بمعنى الاهتمام، فنحن جديرون أن نهتم بهذا القرن لأن العالم من حولنا يهتم به، المسيحيون وهم الذين يحكمون ويسودون العالم حقيقة الآن يهتمون به وغيرهم حتى البوذيون والهندوس وحتى الناس في بلاد شتى يهتمون بهذه الألفية الثالثة كما يسمونها ونحن المسلمين نعلم أن العالم قد تقارب وأصبح قرية واحدة فلا يسعنا أن نغفل ما يهتم به العالم، وعندنا أصل شرعي في هذا وهو أن القرآن ذكر لنا كيف كان المسلمون وهم في مكة في العهد المكي وهم قلة مضطهدون، (أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس..) هكذا كانوا في مكة، ومع هذا اهتموا بالصراع العالمي بين الدولتين الكبريين في ذلك الوقت، دولة الفرس في الشرق ودولة الروم البيزنطية في الغرب وما كان بينهما من صراع انتهى، بغلبة الفرس مما أحزن المسلمين وسرّ المشركين لأن الروم هم نصارى أهل كتاب فهم أقرب للمسلمين والمجوس الفرس يعبدون النار فهم أقرب إلى المشركين ونزل القرآن في الآيات الأولى من سورة الروم (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)، فدل هذا على أننا لا ينبغي أن نغفل ما يحدث في العالم من حولنا وأن نهتم به إذا كان له تأثير علينا، فمن هذه الزاوية نهتم بهذا القرن الجديد أو بهذه الألفية الثالثة..
المقدم
بعد هذا المدخل اللطيف وهذه اللفتة اللطيفة والضرورية أيضاً، لو أعدنا صياغة السؤال الأول كالتالي، أن هذا العالم الذي يحيط بنا له ما يحتفل به من الإنجازات ما لا حصر له، في عالمنا نقدر هذا الاهتمام ولكن هل أنجزنا ما يدعونا إليه..
القرضاوي
الحقيقة هنا أيضاً وقفة بالنسبة لإنجازات العالم، وخصوصاً العالم الغربي الذي يحتفل بهذا القرن، لا شك أن العالم الغربي أنجز إنجازات هائلة في مجال العلم والتكنولوجيا والالكترونيات والفضائيات وثورة الاتصالات وثورة المعلومات، الثورات المعروفة هذه لم تكن تخطر على بال أحد فقد وصل إلى القمر ويريد أن يصل إلى المريخ وصنع الإنسان الآلي وعمل الكمبيوتر وعمل إنجازات هائلة للأسف نحن على هامشها، لا لأن الإسلام يمنعنا من ذلك ولا لأننا أقل ذكاء ولكن الظروف لم تتح لنا أن نسهم إسهاماً إيجابياً في الإنجازات، إذا وجد فرصة منا، مثلاً من قريب احتفلت مصر والعالم العربي بأحد العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل في العلوم الدكتور أحمد زويل وهو رجل مصري وخريج مصر ولكنه وجد فرصة في أمريكا لم تكن تتاح له لو بقي في مصر فبرز وبرّز وعندنا فاروق الباز وعندنا الكثير من العقول المهاجرة من نوابغ العالم العربي والعالم الإسلامي موجودة، فالمهم العالم الغربي أنجز في جانب العلوم ما لا يستطيع أن ينكره أحد، وأنجز أيضاً في مجال آخر وهو مجال الحريات وحقوق الإنسان، هذا إنجاز لا يجوز لأحد أن يغفله في هذه الناحية، أن الفرد يعيش بكرامته ولا يستطيع أحد أن يضيق عليه أو أن ينال من حقه هذا أيضاً إنجاز هائل ولكن بجوار هذا عند الغربيين أنفسهم هذا قرن الحروب والدماء، أنا قرأت بعض الإحصائيات عن المجازر البشرية التي حدثت في العالم وخصوصاً في العالم الغربي، يكفي الحربين العالميتين، حصيلة هائلة، سبعين مليون أو كذا، ولو رأيت مثلاً حصيلة الثورة الشيوعية والحروب الأهلية وغيرها، الدماء في هذا القرن وخصوصاً من العالم الغربي لم تحدث في تاريخ البشرية كلها، لم يكن عند البشر من الأدوات ما تستطيع القتل الجماعي هذا، كانوا يضربون بالقوس أو السيف أو الرمح فيقتل واحد أو كذا، إنما أن تدمر مدينة مثل مدينة هيروشيما أو ناجازاكي، وأيضاً الوحشية التي عمل بها الناس بعضهم مع بعض، والاستعمار، وأيضاً مما يُعاب على الغرب في حضارته المعاصرة وهي الحضارة السائدة والغالبة انهيار القيم الأخلاقية والإيمانية، الحضارة الغربية التي سادت وحققت هذه الإنجازات العلمية الهائلة للأسف ليست قائلة على أساس الإيمان ولا على أساس القيم الأخلاقية للأسف هي حضارة مادية في فلسفتها، ونفعية، ولذلك انتشر فيها الإباحية والشذوذ ومن هنا وجدنا آثارها في مؤتمر السكان الذي انعقد في القاهرة في عام 1994، حيث كان يراد إباحة الإجهاض أن المرأة حرة في جسدها، ولكن أين هذا الكائن الحي الذي يجري في أحشائها، هل من حقها أن تقتل هذا الكائن؟، الإباحية الجنسية، الأب ليس له أن يتدخل في تربية أولاده، أشياء من هذه النوع، حتى أن الكنيسة والأزهر وقفا معاً في هذه القضية، فانهيار القيم والأخلاق أيضاً هذا مما يؤخذ على إنجازات الغرب..
المقدم
هناك مقولة يرددها بعض الفلاسفة في الغرب، طبعاً لن يتفق معنا على أنها انهيار للقيم، هو يسميها التحلل من القيود الدينية والقيود الأخلاقية، هو الذي قاد للانفتاح العلمي وإلى الحريات، بعض العرب الذين يرددون ما يقال في الغرب يتبنون هذه الدعوة، أنه حتى نستطيع اللحاق بالغرب علمياً وفي مجال التكنولوجيا لابد من كسر بعض الضوابط الدينية والخلقية والعرفية، هل لك تعليق على هذا؟
القرضاوي
أولاً، ليس التحلل من القيم الدينية والأخلاقية هو الذي أدى إلى الإنجازات العلمية والتكنولوجية وهذه الأشياء، بالعكس، بعض الفلاسفة الغربيين الآن الذين ينقدون الحضارة الغربية، هناك نقاد للحضارة الغربية من الغربيون أنفسهم مثل (شيفنجلر) ومثل (كولن ويلسن) ومثل (ليوبولد فايس) وكثيرون ومثل (جارودي) أخيراً، وهؤلاء ينقدون الحضارة الغربية ويقولون عليها أن الرجال الأوائل الذين بنوها كانت عندهم دوافع دينية قوية، ولذلك بعضهم يقول نحن نعيش على ظل الظل فعلام يعيش من بعدنا، يعني الأولين كانوا ظل الإيمان ونحن نعيش على ظل ظلهم فعلام يعيش من بعدنا، وهم يعتبرون أن الإيمان أمر ضروري، الذي حدث أن الغربيين تحللوا من عقدة الكنيسة، رجال الكنيسة فهمهم للدين ولبعض الأشياء أضفوا عليه قداسة دينية مثلاً علم الفلك اليوناني القديم أو الجغرافية المقدسة وما يتعلق بالشمس وبالأرض، فعندما يأتي أحدهم بغير هذا فيقولون عنه أنه هرطق وألحد وخرج عن الدين وهو لم يخرج عن الدين فدوران الأرض وكروية الأرض ليس خروجاً عن الدين، المسلمين كانوا منذ قرون يدرسون هذا في كتبهم حتى في كتب التفسير والتوحيد يتكلمون عن كروية الأرض ويسوقون الأدلة عليها، فهم عندما خرجوا عن دين الكنيسة هذا الذي وقف مع الجمود ضد التحرك ومع الجهل ضد العلم ومع الظلم ضد العدل ومع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين والزراع ومع الرجعية ضد التقدم، فلما وقفت الكنيسة ضد هذا، ثاروا على الكنيسة وتخلصوا منها، ولكنه لم يكن تحرر من قيود الإيمان الديني ولكن تحرروا من قيود الكنيسة، إنما لا يمكن أن ينهض مجتمع إلا بأخلاق، حتى بعض الفلاسفة يقولون أن أي مجتمع حتى ولو كان مجتمع من اللصوص لا يمكن أن ينجحوا في مهمتهم إلا بمجموعة من القيم الأخلاقية، مثل أن يتعهدوا بالشرف فيما بينهم وعلى الكتمان، على أن من يسقط منهم لا يرشد عن إخوانه، وأن الذي يسقط لابد أن يتكفلوا بأسرته ولابد أن يدافعوا عنه، مجموعة من القيم وإلاّ لا تسير الحياة، فالأخلاق ضرورة لأي مجموعة بشرية حتى تسير وتنهض وتؤدي مهمتها في الحياة.
المقدم
ذكرت فضيلتك في بعض الكلام .. الشيوعية، الشيوعية من الحركات التي نشأت وانتشرت ثم ذوت وماتت خلال هذا القرن، ما الذي نستفيده من هذه التجربة البشرية؟
القرضاوي
طبعاً الشيوعية قامت في هذا القرن، وطبعاً لم تقم إلا على مذابح هائلة وإبادات بشرية بالملايين واستطاعت أن تقيم دولة كبرى من غير شك، كانت هي الدولة العظمى الثانية أحد القطبين العالميين كان الاتحاد السوفييتي، وكان الاتحاد السوفييتي يطمع أن ينشر الشيوعية في العالم كله لأن دعوة الشيوعية دعوة عالمية، ولكن الكثيرين ممن درس الشيوعية فلسفة وعقيدة ونظاماً تنبؤوا بأنها لابد أن تنهار لأنها لا تحمل عوامل بقاء، هي لا تبقى إلا مع القوة الحديدية ومع القهر والبطش وبغير ذلك لا يمكن، فهم ضحوا بحرية الإنسان من أجل الرفاهية الاقتصادية والواقع أنهم خسروا الحرية وخسروا الرفاهية، وهم قاموا على أساس حكم طبقة البوليريتاريا العمال، ومع هذا العمال كانوا في البلاد الرأسمالية من غير شك أحسن حالاً بكثير وكثير من البلاد الشيوعية وكان أمامنا مثل واضح، برلين الشرقية وبرلين الغربية، أو ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وكان يفصل بينهما هذا السور، كيف كان العمال في برلين الشرقية أو في ألمانيا الشرقية وزملاؤهم في ألمانيا الغربية؟ فرق هائل بين هؤلاء وهؤلاء، فالشيوعية لم تستطع، وهي قد حاربت الإيمان وحاربت القيم وضحَّت بالحرية ولكن في النتيجة لم تستطع أن تطعم الإنسان من جوع ولا أن تؤمنه من خوف ولا أن تطمئنه من قلق فكان لابد أن تنهار وهي انهارت وهي قوة عسكرية عظمى، والذين نشروا مفردات القوة الروسية ماذا تملك من الترسانات الهائلة، ومع هذا لم تغن عنها شيئاً..